الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} قوله عز وجل: {وقالوا} أي اليهود {لن تمسنا} أي لن تصيبنا {النار إلا أياماً معدودة} أي قدر مقدراً ثم يزول عنا العذاب قال ابن عباس: قالت اليهود: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنا نعذب بكل ألف سنة يوماً ثم ينقطع عنا العذاب بعد سبعة أيام وقيل: إنهم عنوا بالأيام الأربعين يوماً التي عبدوا فيها العجل وقيل: إن اليهود زعموا أن الله تعالى عتب عليهم في أمر فأقسم ليعذبنهم أربعين يوماً تحلة القسم فقال الله رداً عليهم وتكذيباً لهم {قل} أي يا محمد لليهود {أتخذتم عند الله عهداً} أي موثقاً أن لا يعذبكم إلا هذه المدة {فلن يخلف الله عهده} أي وعده {أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى} إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: لن تمسنا النار والمعنى بلى تمسكم النار أبداً {من كسب سيئة} السيئة اسم يتناول جميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة، والسيئة هنا الشرك في قول ابن عباس {وأحاطت به خطيئته} أي أحدقت به من جميع جوانبه قال ابن عباس: هي الشرك يموت عليه صاحبه وقيل: أحاطت به أي أهلكته خطيئته وأحبطت ثواب طاعته فعلى مذهب أهل السنة يتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية، بالكفر والشرك لقوله تعالى: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فإن الخلود في النار هو للكفار والمشركين.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات}. فإن قلت: العمل الصالح خارج عن اسم الإيمان لأنه تعالى قال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً. قلت: أجاب بعضهم بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله: آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان فإذا حسن أن يقول: والذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل: إن قوله آمنوا يفيد الماضي وعملوا الصالحات يفيد المستقبل فكأنه تعالى قال آمنوا أولاً ثم داموا عليه آخراً ويدخل فيه جميع الأعمال الصالحات {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} يعني في التوراة. والميثاق العهد الشديد {لا تعبدون إلا الله} أي أمر الله تعالى بعبادته فيدخل تحته النهي عن عبادة غيره لأن الله تعالى هو المستحق للعبادة لا غيره {وبالوالدين إحساناً} أي براً بهما ورحمة لهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه، ولا يؤذيهما البتة وإن كانا كافرين بل يجب عليه الإحسان إليهما ومن الإحسان إليهما أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين يأمرهما بالمعروف بالرفق، واللين من غير عنف وإنما عطف بر الوالدين بر الوالدين على الأمر بعبادته، لأن شكر المنعم واجب، ولله على عبده أعظم النعم لأنه هو الذي خلقه وأوجده بعد العدم فيجب تقديم شكره على شكر، غيره ثم إن للوالدين على الولد نعمة عظيمة، لأنهما السبب في كون الولد ووجوده ثم إن لهما عليه حق التربية أيضاً فيجب شكرهما ثانياً {وذي القربى} أي القرابة لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان إليهم: إنما هو بواسطة الوالدين فلهذا حسن عطف القرابة على الوالدين {واليتامى} جمع يتيم وهو الذي مات أبوه وهو طفل صغير، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم وتجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمور: لصغرة ويتمه ولخلوه، عمن يقوم بمصلحته إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه، ولا يقوم بحوائجه {والمساكين} جمع مسكين وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وإنما تأخرت درجة المساكين عن اليتامى، لأنه قد يمكن أن ينتفع بنفسه وينفع غيره بالخدمة {وقولوا للناس حسناً} فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب للحاضرين من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلهذا عدل من الغيبة إلى الحضور، والمعنى قولوا: حقاً وصدقاً في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموها قاله ابن عباس. الوجه الثاني إن المخاطبين به هم الذين كانوا في زمن موس عليه السلام، وأخذ عليهم الميثاق وإنما عدل من الغيبة إلى الحضور على طريق الالتفات كقوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} وقيل: فيه حذف تقديره وقلنا لهم: في الميثاق وقولوا: للناس حسناً ومعناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقيل هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ولما أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به أخبر عنهم أنهم ما وفوا بذلك بقوله تعالى: {ثم توليتم} أي أعرضتم عن العهد {إلا قليلاً منكم} يعني من الذين آمنوا كعبدالله بن سلام وأصحابه فإنهم وفوا بالعهد {وأنتم معرضون} أي كإعراض آبائكم. قوله عز وجل: {وإذ أخذنا ميثاقكم} قيل: هو خطاب لمن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وقيل: هو خطاب لآبائهم وفيه تقريع لهم {لا تسفكون} أي لا تريقون {دماءكم} أي لا يسفك بعضكم دم بعض وقيل: معناه لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم فكأنكم أنتم سفكتم دماء أنفسكم {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره، وقيل: لا تفعلوا شيئاً فتخرجوا بسببه من دياركم {ثم أقررتم} أي بهذا العهد أنه حق {وأنتم تشهدون} يعني أنتم يا معشر اليهود اليوم تشهدون على ذلك.
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} {ثم أنتم هؤلاء} يعني يا هؤلاء اليهود {تقتلون أنفسكم} أي يقتل بعضكم بعضاً {وتخرجون فريقاً منكم من دياركم} أي يخرج بعضكم بعضاً من دياركم {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم {وإن يأتوكم اسارى} جمع أسير {تفادوهم} أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء، وقرئ تفادوهم أي تبادلوهم وهو مفاداة الأسير بالأسير، ومعنى الآية أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة ان لا يقتل بعضهم بعضاً. ولا خرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأيما عبد أو أمة من بني إسرائيل وجدتموه فاشتروه بما قام من ثمنه، وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حروب فكانت بنو النضير تقاتل مع حلفائهم وبنو قريضة تقاتل مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين اخرجوهم من ديارهم وخربوها. وكان إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً يفدونه به فعيرتهم العرب. وقالوا: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا: إنا أمرنا أن نفديهم فقالوا: كيف تقاتلونهم؟ فقالوا: إنا نستحي أن تذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى فقال: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان {وهو محرم عليكم إخراجهم} وإن يأتوكم أسارى تفدوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهر مع أعدائهم وفك أسراهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء قال الله عز وجل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} معناه إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلونهم بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضاً فذمهم على مناقضة أفعالهم لا على الفداء لأنهم أتوا ببعض ما وجب عليهم وتركوا البعض {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} يعني يا معشر اليهود {إلا خزي في الحياة الدنيا} أي عذاب وهوان فكان خزي بني قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات من أرض الشام {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} يعني عذاب النار {وما الله بغافل عما تعملون} فيه وعيد وتهديد عظيم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} {أولئك الذين اشتروا} أي استبدلوا {الحياة الدنيا بالآخرة} لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة {فلا يخفف عنهم العذاب} أي فلا يهون عليهم {ولا هم ينصرون} أي ولا يمنعون من عذاب الله تعالى. قوله عز وجل: {ولقد آتينا} أي أعطينا {موسى الكتاب} يعني التوراة جملة واحدة {وقفينا} أي وأتبعنا من التقفية وهو أن يقفو أثر الآخر {من بعده بالرسل} يعني رسولاً بعد رسول وكانت الرسل بعد موسى إلى زمن عيسى عليهم السلام متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة: قيل إن الرسل بعد موسى يوشع بن نون وأشمويل وداود وسليمان وأرمياء وحزقيل وإلياس ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فجاءهم بشريعة جديدة، وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} اي الدلالات الواضحات وهي المعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل هي الإنجيل. واسم عيسى بالسريانية أيشرع ومريم بمعنى الخادم وقيل هو اسم علم لها كزيد من الرجال {وأيدناه} أي وقويناه {بروح القدس} قيل: أراد بالروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى وأضاف روح عيسى إليه تشريفاً وتكريماً وتخصيصاً له كما تقول عبدالله وأمة الله وبيت الله وناقة الله وقال ابن عباس هو اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى وقيل هو الإنجيل لأنه حياة القلوب سماه روحاً كما سمى القرآن روحاً وقيل هو جبريل ووصف بالقدس وهو الطهارة لأنه لم يفترق ذنباً قط وقيل القدس هو الله تعالى والروح جبريل كما تقول عبدالله، سمي جبريل روحاً للطافته لأنه روحاني خلق من النور وقيل سمى روحاً لمكانه من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وحمل روح القدس هنا على جبريل أولى لأنه تعالى قال وأيدناه أي قويناه بجبريل وذلك أنه أمر أن يكون مع عيسى ويسير معه حيث سار فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء فلما سمعت اليهود بذكر عيسى قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم علمت ولا كما يقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً قال الله تعالى: {أفكلما جاءكم} يعني يا معشر اليهود {رسول بما لا تهوى} تقبل {أنفسكم استكبرتم} أي تعظمتم عن الإيمان به {ففريقاً كذبتم} يعني مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم {وفريقاً تقتلون} يعني مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوه، وذلك أن اليهود كانوا إذا جاءهم رسول بما لا يهوون كذبوه فإن تهيأ لهم قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الدنيا وطلب الرياسة {وقالوا} يعني اليهود {قلوبنا غلف} جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة فلا يعي ولا يفقه. قال ابن عباس غلف بضم اللام جمع غلاف والمعنى أن قلوبنا أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك وقيل أوعية من الوعي لا تسمع حديثاً إلى وعته إلا حديثك فإنها لا تعيه ولا تعقله ولو كان خيراً لفهمته ووعته قال الله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي طردهم وأبعدهم من كل خير. وسبب كفرهم أنهم اعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنهم أنكروه وجحدوه فلهذا لعنهم الله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} أي لم يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين كان أكثرهم منهم.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} قوله عز وجل: {ولما جاءهم كتاب من عند الله} يعني القرآن {مصدق لما معهم} يعني التوراة وهذا التصديق في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن نبوته وصفته ثابته في التوراة {وكانوا} يعني اليهود {من قبل} أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {يستفتحون} أي يستنصرون به {على الذين كفروا} يعني مشركي العرب وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوارة فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فما جاءهم ما عرفوا} أي الذي عرفوه يعني محمداً صلى الله عليه وسلم عرفوا نعته وصفته وأنه من غير بني إسرائيل {كفروا به} أي جحدوه وأنكروه بغياً وحسداً {فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم} أي بئس شيء اشتروا به أنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق واشتروا بمعنى باعوا والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم {أن يكفروا بما أنزل الله} يعني القرآن {بغياً} أي حسداً {أن ينزل الله من فضله} يعني الكتبا والنبوة {على من يشاء من عباده} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {فباؤوا} أي فرجعوا {بغضب على غضب} أي مع غضب قال ابن عباس الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل والثاني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل: الأول بعبادتهم العجل والثاني: بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم {وللكافرين} يعني الجاحدين بنوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم {عذاب مهين} أي يهانون فيه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} يعني بالقرآن وقيل: بكل ما أنزل الله {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني التوارة وما أنزل على أنبيائهم {ويكفرون بما وراءه} أي بما سواه من الكتب وقيل: بما بعده يعني الإنجيل والقرآن {وهو الحق} يعني القرآن {مصدقاً لما معهم} يعني التوراة {قل} يا محمد {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} إنما أضاف القتل للمخاطبين من اليهود، وإن كان سلفهم قتلوا لأنهم رضوا بفعلهم قيل: إذا عملت المعصية في الأرض فمن كرهها وأنكرها بريء منها، ومن رضيها كان من أهلها {إن كنتم مؤمنين} أي بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء. قوله عز وجل {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة {ثم اتخذتم العجل من بعده} أي من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات {وأنتم ظالمون} إنما كرره تبكيتاً لهم للحجة عليهم {واذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} أي استجيبوا وأطيعوا أي فيما أمرتم به {قالوا سمعنا} يعني قولك {وعصينا} يعني أمرك وقيل إنهم لم يقولوا بألسنتهم، ولكن لما سمعوه وتلقوه تلقوه بالعصيان فنسب ذلك إليهم {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي تداخل حبه في قلوبهم والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ في الثوب. وقيل: إن موسى أمر أن يبرد العجل ويذرى في النهر وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل، ظهر سحالة الذهب على شاربه {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} أي بأن تعبدوا العجل والمعنى بئس الإيمان إيمان يأمر بعبادة العجل {إن كنتم مؤمنين} أي بزعمكم وذلك أنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله تعالى.
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس} وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة منها قولهم: لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه فكذبهم الله وألزمهم الحجة فقال: قل يا محمد لليهود إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة خالصة لكل دون الناس {فتمنوا الموت} أي فاطلبوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه وأنها له حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلاّ بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إن كنتم صادقين} أي في قولكم ودعواكم، وروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاّ مات» قال الله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} أي لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون {بما قدمت أيديهم} يعني من الأعمال السيئة، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون من يده {والله عليم بالظالمين} فيه تخويف وتهديد لهم، وإنما خصهم بالظلم لأنه أعم من الكفر لأن كل كافر ظالم وليس كلّ ظالم كافراً فلهذا كان أعم وكانوا أولى به {ولتجدنهم} اللام للقسم والنون للتوكيد تقديره والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود {أحرص الناس على حياة} أي حياة متطاولة، والحرص أشد الطلب {ومن الذين أشركوا} قيل هو متصل بما قبله ومعطوف عليه والمعنى وأحرص من الذين أشركوا. فإن قلت: الذين أشركوا قد دخلوا تحت الناس في قوله أحرص الناس فلم أفردهم بالذكر؟ قلت: افردهم بالذكر لشدّة حرصهم وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون إلاّ الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالبعث والجزاء كان حقيقاً بالتوبيخ العظيم وقيل: إن الواو واو استئناف تقديره ومن الذين أشركوا أناس {يود أحدهم} وهم المجوس سموا بذلك لأنهم يقولون: بالنور والظلمة يود أن يتمنى أحدهم {لو يعمر ألف سنة} أي تعمير ألف سنة وإنما خص الألف لأنها نهاية العقود ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون: زه هز إرسال أي عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان فهذه تحيتهم. والمعنى أن اليهود أحرص من المجوس الذين يقولون ذلك {وما هو بمزحزحه} أي بمباعده {من العذاب} أي النار {أن يعمر} أي لو عمر طول عمره لا ينقذه من العذاب {والله بصير بما يعملون} أي لا يخفى عليه خافية من أحوالهم.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} قوله عز وجل: {قل من كان عدواً لجبريل} قال ابن عباس سبب نزول هذه الآية أن عبدالله بن صوريا حبر من أحبار اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل قال ذلك عدونا ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل ينزل بالعذاب والشدّة والخسف، وإنه عادانا مراراً وأشد ذلك علينا أن الله أنزل علي نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بختنصر فلما كان زمنه بعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً، فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال: إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فعلى أي حق تقتله فلما كبر ذلك الغلام وقوى غزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدواً فأنزل الله هذه الآية وقيل: قالوا إن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فاتخذناه عدواً. وقيل إن عمر بن الخطاب كان له أرض بأعلى المدينة وكان ممره إليها على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يوماً ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك وإنا لنطمع فيك فقال عمر والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم، لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال جبريل قالوا ذلك عدونا يطلع محمداً على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدة، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلامة، فقال لهم: تعرفون جبريل وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله تعالى قالوا: جبريل عن يمنيه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدو لجبريل فقال عمر أشهد أن من كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر. ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله ثم رجع عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وقال: لقد وافقك ربك يا عمر، فقال عمر: والله لقد رأيتني بعد ذلك في ديني أصلب من الحجر. والأقرب ان سبب هذه العداوة كون جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي لأن قوله: فإنه نزله على قلبك مشعر بذلك قوله {فإنه نزله} يعني جبريل نزل بالقرآن كناية عن غير مذكور {على قلبك} يا محمد وإنما خص القلب بالذكر لأنه محل الحفظ {بإذن الله} أي بأمره {مصدقاً} أي موافقاً {لما بين يديه} أي لما قبله من الكتب {وهدى وبشرى للمؤمنين} أي في القرآن هداية للمؤمنين إلى الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الثواب وبشرى لهم بثوابها إذا أتوا بها.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل} لما بين في الآية الأولى أن من كان عدواً لجبريل لأجل، أنه نزل بالقرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وجب أن يكون عدواً لله. لأن الله تعالى هو الذي نزله على محمد بين في هذه الاية أن كل من كان عدواً لأحد هؤلاء، فإنه عدو لجميعهم وبين أن الله عدوه بقوله: {فإن الله عدو للكافرين} فأما عدواتهم لله فإنها لا تضره ولا تؤثر وعداوته لهم تؤديهم إلى العذاب الدائم، الذي لا ضرر أعظم منه، وقيل: المراد من عداوتهم لله وعداوتهم لأوليائه وأهل طاعته فهو كقوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أي يحاربون أولياء الله أهل طاعته. وقوله وملائكته ورسله، يعني أن من عادى واحداً منهم فقد عادى جميعهم ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بجميعهم وجبريل وميكائيل إنما خصهما بالذكر وإن كانا داخلين في جملة الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما وعلو منزلتهما وقدم جبريل على ميكائيل لفضله عليه لأن جبريل ينزل بالوحي الذي هو غذاء الأرواح وميكائيل ينزل بالمطر الذي هو سبب غذاء الأبدان، وجبريل وميكائيل اسمان أعجميان. ومعناهما: عبدالله لأن جبر وميك بالسريانية هو العبد وإيل هو الله {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى بينات واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام {وما يكفر بها} أي وما يجحد بهذه الآيات {إلاّ الفاسقون} أي الخارجون عن طاعتنا وما أمروا به {أو كلما عاهدوا بها} قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ عليهم من العهود في محمد صلى الله عليه وسلم وأن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهد فأنزل الله هذه الآية أو كلما استفهام إنكار عاهدوا عهداً هو قولهم: إنه قد أظلّ زمان نبي مبعوث وإنه في كتابنا وقيل إنهم عاهدوا الله عهوداً كثيرة ثم نقضوها {نبذه} أي طرح العهد ونقضه {فريق منهم} يعني اليهود {بل أكثرهم لا يؤمنون} يعني كفر فريق منهم بنقض العهد وكفر فريق منهم بالجحد للحق.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} {ولما جاءهم رسول من عند الله} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مصدق لما معهم} يعني مصدق بصحة التوراة ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام وقيل: إن التوراة بشرت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كان مجرد مبعثه مصدقاً للتوراة {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} قيل: أراد بالكتاب القرآن. وقيل: التوراة وهو الأقرب لأن النبذ لا يكون إلاّ بعد التمسك، ولم يتمسكوا بالقرآن. أما نبذهم التوراة فإنهم كانوا يقرؤونها ولا يعملون بها. وقيل: إنهم أدرجوها في الحرير وحلوها بالذهب ولم يعملوا ما فيها {كأنهم لا يعلمون} يعني انهم نبذوا كتاب الله ورفضوه عن علم به ومعرفة، وإنما حملهم على ذلك عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وهم علماء اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكتموا أمره وكان أولئك النفر قليلاً. قوله عز وجل: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} يعني اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين، ومعنى تتلو تقرأ من التلاوة وقيل معناه تفتري وتكذب {على ملك سليمان} وهو قولهم: إن سليمان ملك الناس بالسحر وقيل: على ملك سليمان اي على عهده وزمانه. وقصة ذلك أن الشيطان كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف: هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك وكتبوه ودفنوه تحت كرسيه وذلك حين نزل الله عنه الملك ولم يشعر بذلك قيل: إن بني إسرائيل اشتغلوا بتعليم السحر في زمانه فمنعهم سليمان من ذلك وأخذ كتبهم ودفنها تحت سريره، فلما مات استخرجها الشياطين. وقالوا للناس إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما صلحاء بني إسرائيل وعلماؤهم فأنكروا ذلك. وقالوا: معاذ الله أن يكون هذا العلم من علم سليمان وأما السفلة منهم. فقالوا: هذا هو علم سليمان وأقبلوا على تعليمه وتركوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان. فلم تزل هذه حالهم إلى أن بعث الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} {وما كفر سليمان} يعني بالسحر ولم يعمل به، وفيه تنزيه سليمان عن السحر، وذلك ان اليهود أنكروا نبوة سليمان، وقالوا: إنما حصل له هذا الملك وسخرت الجن والإنس له بسبب السحر وقيل: إن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فبراه الله من ذلك، وقيل إن بعض أحبار اليهود قال ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلاّ ساحراً فأنزل الله تعالى: {وما كفر سليمان} يعني أن سليمان كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً ثم بين الله تعالى أن الذي براه منه لاحق بغيره فقال {ولكن الشياطين كفروا} يعني أن الذين اتخذوا السحر لأنفسهم هم الذين كفروا ثم بين سبب كفرهم فقال تعالى: {يعلمون الناس السحر} يعني ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر. وقيل: يحتمل أن يكون يعلمون يعني اليهود الذين عنوا بقوله: واتبعوا. وسمي السحر سحراً لخفاء سببه، فلا يفعل إلاّ في خفية وقيل: معنى السحر الإزالة وصرف الشيء عن وجهه تقول العرب ما سحرك عن كذا أي ما صرفك عنه فكأنه الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه هذا أصله من حيث اللغة، وأما حقيقته فقد قيل: إنه عبارة عن التمويه والتخييل، ومذهب أهل السنة أن له وجوداً أو حقيقة والعمل به كفر وذلك إذا اعتقد أن الكواكب هي المؤثرة في قلب الأعيان وروي عن الشافعي أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به وقيل إن السحر يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الإنسان على صورة الحمار، والحمار على صورة الكلب وقد يطير الساحر في الهواء، وهذا القول ضعيف عند أهل السنة لأنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق الفاعل لهذه الأشياء عند عمل الساحر لذلك إلاّ أن الساحر هو الفاعل لها المؤثر فيها والأصح، أن السحر يخيل ويؤثر في الأبدان بالأمراض والجنون والموت، ويدل على ذلك أن للكلام تأثيراً في الطباع فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحم، وقد مات قوم بكلام سمعوه فالسحر بمنزلة العلل في الأبدان وأما حكمه فإنه من الكبائر التي نهى عنها، ويحرم تعلمه لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم والزنا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» أخرجاه في الصحيحين. فعند رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر وثناه بالشرك وأمرنا باجتنابه، وقوله: الموبقات يعني المهلكات والسحر على قسمين: أحداهما، يكفر به صاحبه وهو أن يعتقد أن القدرة لنفسه في ذلك، وهو المؤثر أو يعتقد أن الكواكب هي المؤثرة الفعالة فإذا انتهى به السحر إلى هذه الغاية صار كافراً بالله تعالى، ويجب قتله لما روي عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» أخرجه الترمذي. والقسم الثاني، من السحر وهو التخييل الذي يشاكل النيرنجيات والشعبذة، ولا يعتقد صاحبه لنفسه فيه قدرة ولا أن الكواكب هي المؤثرة ويعتقد أن القدرة لله تعالى، وأنه هو المؤثر فهذا القدر لا يكفر به صاحبه ولكنه معصية وهو من الكبائر، ويحرم فعله فإن قتل بسحره قتل قصاصاً لما روي عن مالك انه بلغه ان حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت أخرجه في الموطأ. قوله عز وجل: {وما أنزل على الملكين} أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين والإنزال هنا بمعنى الإلهام والتعليم أي ما ألهما وعلما وقرئ في الشاذ الملكين بكسر اللام. قال: هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقيل: علجان ووجهه أن الملائكة لا يعلمون السحر والقراءة المشهورة بفتح اللام. فإن قلت: كيف يجوز أن يضاف إلى الله تعالى إنزال ذلك على الملائكة وكيف يجوز للملائكة تعليم السحر؟ قلت: قال ابن جرير الطبري أن الله تعالى عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده من بني آدم عنه فغير منكر أن يكون الله تعالى علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهم يقولان: لمن جاء يتعلم ذلك منهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق بين المرء وزوجه فيتمحض المؤمن بتركه التعليم منهما، ويجري الكافر بتعلمه الكفر والسحر منهما ويكون الملكان في تعليمهما ما علما من ذلك مطيعين لله تعالى إذ كان عن إذن الله تعالى، لهما بتعليم ذلك غير ضارهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ما بعد نهيهما إياه عنه بقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر، إذ كانا قد أديا ما أمرا به. وقال غيره؛ إنهما لا يتعمدان ذلك بل يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه فالشقي من ترك نصحهما، وتعلم السحر من وصفهما، والسعيد من قبل نصحهما وترك تعلم السحر منهما. وقيل: إن الله تعالى امتحن الناس بهما في ذلك الزمان فالشقي من تعلم السحر منهما فيكفر به والسعيد من تركه فيبقى على إيمانه، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بنهر طالوت بقوله: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} {ببابل} قيل: هي بابل العراق بأرض الكوفة سميت بذلك لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود. وقيل: إنها بابل نهاوند والأول أصح أشهر {هاروت وماروت} اسمان سريانيان. وقصة الآية على ما ذكره ابن عباس وغيره. قالوا: إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم. وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم وهم يعصونك فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال الله تعالى: وركبت فيكم ما ركبت فيهم ركبتهم مثل ما ركبوا قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا ان نعصيك قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم وكان اسم هاروت عزا وماروت عزايا، فغير اسمهما لما قارفا الذنب وركب الله فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض وأمرهما ان يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك، والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. وقيل: بل افتتنا في أول يوم وذلك أنه اختصم إليهما امرأة يقال لها: الزهرة وكانت من أجمل أهل فارس. وقيل: كانت ملكة فلما رأياها أخذت بقلوبهما فقال أحدهما لصاحبه هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي. قال: نعم فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلاّ أن تعبدا هذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذ الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث، ومعها قدح خمر في أنفسهما من الميل ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فشربا فلما انتشيا وقعا بالمرأة فزنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه خوف الفضيحة. وقيل: إنهما سجدا للصنم. وقيل: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها. فقال: أحداهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي؟ قال: نعم قال هل لك أن تقضي لها على زوجها. فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة؟ فسألاها نفسها فقالت: لا إلاّ أن يقضيا لي على زوجي فقضيا. ثم سألاها نفسها فقالت: لا إلاّ أن تقتلاه فقال أحدهما: لصاحبه أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة؟ فقتلاه ثم سألاها نفسها فقالت: لا إلاّ أن لي صنماً أعبده إن أنتما صليتما معي عنده فعلت. فقال أحدهما: لصاحبه مثل القول الأول فرد عليه مثله فصليا فمسخت شهاباً. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قالت لهم لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا: اسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما بمدركي حتى تعلماني إياه فقال أحدهما للآخر: علمها. فقالك إني أخاف الله فقال الآخر فأين رحمة الله فعلمها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر آخرون ذلك وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السيارة السبعة التي أقسم الله بها فقال: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} والتي فتنت هاروت وماروت كانت امرأة تسمى الزهرة لجمالها وحسنها فلما بغت مسخها الله تعالى شهاباً. قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام وأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل. وقالا له: رأينا يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختاروا عذاب الدنيا إذ علما انه ينقطع، فهما ببابل يعذبان قيل: إنهما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة. وقيل: إنهما منكوسان يضربان بسياط الحديد. وقيل: إن رجلاً قصدهما ليتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقة عيونهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلاّ قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله فقال: لا إله إلاّ الله فلما سمعا كلامه قالا: لا إله إلاّ الله من أنت؟ قال: رجل من الناس. فقالا: من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا؟ أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال: نعم فقال: الحمد لله وأظهر الاستبشار فقال الرجل مم استبشاركما؟ قالا: إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا. فصل: في القول بعصمة الملائكة أجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاً، واتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة حكم النبيين، سواء في العصمة في باب البلاغ عن الله عز وجل وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء فكذلك الملائكة وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم، كالأنبياء مع أممهم، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة فذهب طائفة من المحققين. وجميع المعتزلة إلى عصمة جميع الملائكة عن جميع الذنوب والمعاصي، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية، وذهب طائفة إلى أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها قصة هاروت وماروت عن علي وما نقله أهل الأخبار والسير. ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة. عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد. وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود، وقد علمي افتراؤهم على الملائكة والأنبياء وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآيات، افتراء اليهود على سليمان أولاً، ثم عطف على ذلك قصة هاروت وماروت ثانياً، قالوا: ومعنى الآية وما كفر سليمان يعني بالسحر الذي افتعله عليه الشياطين، واتبعتهم في ذلك فأخبر عن افترائهم وكذبهم، وذكروا أيضاً في الجواب عن هذه القصة وأنها باطلة وجوهاً: الأول: إن في القصة أن الله تعالى قال: للملائكة لو ابتليتم بما ابتليت به بنو آدم لعصيتموني، قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك وفيه رد على الله تعالى وذلك كفر وقد ثبت أنهم كانوا معصومين قبل ذلك فلا يقع هذا منهم. الوجه الثاني: أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد لأن الله تعالى لا يخير من أشرك، وإن كان قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما. الوجه الثالث أن المرأة لما فجرت فكيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وصارت كوكباً وعظم الله قدرها بحيث أقسم بها في قوله: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} فبان بهذه الوجوه ركة هذه القصة، والله أعلم بصحة ذلك وسقمه. والأولى تنزيه الملائكة عن كل ما لا يليق بمنصبهم وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا} يعني وما يعلمان أحداً حتى ينصحاه أولاً ويقولا {إنما نحن فتنة} أي ابتلاء ومحنة {فلا تكفر} أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، قيل: يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات فإن أبى قبول نصحهما وصمم على التعليم يقولان له: ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا ذلك خرج منه نور ساطع في السماء فذلك الإيمان والمعرفة. وينزل شيء أسود مثل الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى: {فيتعلمون منهما} يعني من الملكين {ما يفرقون به بين المرء وزوجه} أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، كالتمويه والتخييل والنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده البغضاء والنشوز، والخلاف بين الزوجين ابتلاء من الله تعالى لا أن السحر له تأثير في نفسه بدليل قوله: {وما هم} يعني السحرة {بضارين به} أي بالسحر {من أحد} أي أحداً {إلاّ بإذن الله} أي بعلمه وقضائه وتكوينه فالساحر يسحر والله تعالى يقدر ويكون ذلك بقضائه تعالى وقدرته ومشيئته {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يعني السحر لأنهم يقصدون به الشر {ولقد علموا} يعني اليهود {لمن اشتراه} أي اختار السحر {ما له في الآخرة من خلاق} يعني ما له نصيب في الجنة {ولبئس ما شروا به أنفسهم} أي باعوا حط أنفسهم حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق {لو كانوا يعلمون} فإن قلت: كيف أثبت الله لهم العلم أولاً في قوله: ولقد علموا على التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم آخر في قوله لو كانوا يعلمون. قلت: قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق ثم مع هذا العلم خالفوا واشتغلوا بالسحر وتركوا العمل بكتاب الله تعالى وما جاءت به الرسل عناداً منهم وبغياً، وذلك على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك منهم من العقاب فكأنهم حين لم يعملوا بعلمهم كانوا منسلخين منه.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} {ولو أنهم} يعني اليهود {آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {واتقوا} يعني اليهودية والسحر، وما يؤثمهم {لمثوبة من عند الله} أي لكان ثواب الله إياهم {خير} لهم يعني هذا الثواب {لو كانوا يعلمون} يعني ذلك. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله من المراعاة أي ارعنا سمعك وفرغة لكلامنا وكانت هذه اللفظة سباً قبيحاً، بلغة اليهود ومعناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل: من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا: راعنا يعني أحمق فلما سمعت اليهود هذه الكلمة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمداً سراً فأعلنوا به الآن فكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال اليهود لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} أي لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وقولوا انظرنا} أي انظر إلينا. وقيل معناه انتظرنا وتأن بنا وفهمنا {واسمعوا} اي ما تؤمرون به وأطيعوا نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولون لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم راعنا لئلا يتطرق أحد إلى شتمه وأمرهم بتوقيره وتعظيمه وأن يتخيروا لخطابه صلى الله عليه وسلم من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أدقها، وإن سألوه بتبجيل وتعظيم ولين لا يخاطبوه بما يسر اليهود {وللكافرين} يعني اليهود {عذاب أليم} أي مؤلم.
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} {ما يود} أي ما يحب {الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني اليهود {ولا المشركين} يعني عبدة الأوثان لأن الكفر اسم جنس تحته نوعان أهل الكتاب وهم الذين بدلوا كتابهم وكذبوا الرسل وعبدة الأوثان وهم من عبدوا غير الله {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} يعني ما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم من الوحي والنبوة، وإنما كرهت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسداً وبغياً منهم على المؤمنين، وذلك أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ولوددنا لو كان خيراً فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيباً لهم {والله يختص برحمته من يشاء} يعني أنه تعالى يختص بنبوته ورسالته من يشاء من عباده، ويتفضل بالإيمان والهداية على من أحب من خلقه رحمة منه لهم {والله ذو الفضل العظيم} يعني أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه منه ابتلاء وتفضلاً عليهم من غير استحقاق أحد منهم لذلك بل له الفضل والمنة على خلقه. قوله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها} الآية. وسبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول: اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما يقول: إلا من تلقاء نفسه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما انت مفتر} فأنزل ما ننسخ من آية فبين بهذه الآية وجه الحكمة في النسخ وأنه من عنده لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم. وأصل النسخ في اللغة يكون بمعنى النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب، وهو أن ينقل من كتاب إلى كتاب آخر كذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا المعنى يكون القرآن كله منسوخاً، وذلك أنه نسه من اللوح المحفوظ ونزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ويكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة وهو إزالة شيء بشيء يعقبه كنسخ الشمس الظل، والشيب الشباب فعلى هذا المعنى يكون بعض القرآن منسوخاً وبعضه ناسخاً، وهو المراد من حكم هذه الآية وهو إزالة الحكم بحكم يعقبه.
فصل في حكم النسخ: هو في اصطلاح العلماء، عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والنسخ جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافاً لليهود، فإن منهم من ينكره عقلاً لكنه منعه سمعاً، وشذت طائفة قليلة من المسلمين فأنكرت النسخ احتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ، ووقوعه بأن الدلائل قد دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصح، إلا مع القول، بالنسخ وهو نسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ. ولنا على اليهود إلزامات: منها أن الله تعالى حرم عليهم العمل في يوم السبت، ولم يحرمه على من كان قبلهم، ومنها أنه قد جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الفلك: إني جعلت كل دابة مأكولاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم. ثم إنه تعالى حرم على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوانات. ومنها إن آدم عليه الصلاة والسلام كان يزوج الأخ للأخت وقد حرمه على من بعده وعلى موسى عليه الصلاة والسلام فثبت بهذا جواز النسخ، وحيث ثبت جواز النسخ فقد اختلفوا فيه على وجوه: أحدها أن القرآن نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما. الوجه الثاني المراد من النسخ هو نسخ القرآن ونقله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا الوجه الثالث، وهو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن المراد من النسخ هو رفع حكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده وهو المراد بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} لأن الآية إذ أطلقت، فالمراد به آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة، واستدل بهذه الآية وهو أنه تعالى قال: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} وذلك يفيد أنه تعالى هو الآتي والمؤتي به هو من جنس القرآن، وما كان من جنس القرآن فهو قرآن. وقوله: نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة ولأن السنة لا تكون خيراً من القرآن ولا مثله. واحتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للاقربين منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» أجاب الشافعي رضي الله عنه: بأن هذا ضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وتقرير هذا وبسطه معروف في أصول الفقه. ثم النسخ في القرآن على وجوه: أحدها ما رفع حكمه وتلاوته كما روى عن أبي إمامة بن سهل: أن قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك السورة رفعت بتلاوتها وحكمها» أخرجه البغوي بغير سند. وقيل: إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فرفع بعضها تلاوة وحكماً. الوجه الثاني، ما رفع تلاوته وبقي حكمه مثل آية الرجم روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ووعيناها وعقلناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. أخرجه مسلم وللبخاري نحوه. والوجه الثالث ما رفع حكمه وثبت خطه وتلاوته وهو كثير في القرآن، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي وبالسنة عند غيره وآية عدة الوفاة بالحول، نسخت بآية أربعة أشهر وعشراً وآية القتال وهي قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} الآية نسخت بقوله: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} الآية ومثل هذا كثير في القرآن. وأما معنى الاية فقوله: ما ننسخ من آية أي نرفعها أو نرفع حكمها أو ننسها قرئ بضم النون وكسر السين، ومعناها نثبتها على قلبك وقال ابن عباس: نتركها لا ننسخها. وقيل: معناه نأمر بتركها فعلى هذا يكون النسخ الأول رفع الحكم، وإقامة غيره مقامه والإنساء نسخ من غير إقامة غيره وقرئ ننسأها بفتح النون والسين وبالهمزة ومعناها: نؤخرها فلا ننزلها أو نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كآية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة، والحكم قال سعيد بن المسيب وعطاء: ما ننسخ من آية فهو ما نزل من القرآن جعلاه من نسخت الكتاب إذا نقلته إلى كتاب آخر وننسأها أن نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها {نأت بخير منها} أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجوركم وليس معناه ان آية خير من آية لأن كلام الله تعالى كله واحد {أو مثلها} أي في المنفعة والثواب فما نسخ إلى الأيسر كان أسهل في العمل كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فكان خيراً لهم في عاجلهم لسقوط التعب والمشقة عليهم، وما نسخ إلى الأشق كان أكمل في الثواب كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة فنسخ ذلك، وفرض صيام شهر رمضان فكان صوم شهر كامل في السنة أثقل على الأبدان، وأشق من صيام أيام معدودات فكان ثوابه أكمل وأكثر. أما المثل فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس، وصرفه إلى المسجد الحرام واستواء الأجر في ذلك لأن على المصلي التوجه إلى حيث أمره الله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} أي على النسخ والتبديل، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلاً وآجلاً.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} يعني أنه تعالى هو المتصرف في السموات والأرض، وله سلطانهما دون غيره يحكم فيهما وفيما فيهما بما شاء من أمر ونهي ونسخ وتبديل هذا الخبر وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لكن فيه تكذيب لليهود الذين أنكروا النسخ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض، وأن الخلق كلهم عبيده وتحت تصرفه يحكم فيهم بما يشاء، وعليهم السمع والطاعة {وما لكم} يعني يا معشر الكفار عند نزول العذاب {من دون الله} أي مما سوى الله {من ولي} أي قريب وصديق، وقيل من وال وهو المقيم بالأمور {ولا نصير} أي ناصر يمنعكم من العذاب وقيل في معنى الآية، وليس لكم أيها المؤمنين بعد الله من قيم يأمركم ولا نصير يؤيدكم، ويقويكم على أعدائكم. قوله عز وجل: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} نزلت في اليهود، وذلك أنهم قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً كما سئل قوم موسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أتريدون وقيل بل تريدون أن تسألوا رسولكم يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {كما سئل موسى من قبل} وذلك أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة ففي الآية منعهم ونهيهم عن السؤالات المقترحة بعد ظهور الدلالات والمعجزات وثبوت الحجج والبراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. {ومن يتبدل} أي يستبدل {الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} أي أخطأ قصد الطريق، وقيل: إن قوله ومن يتبدل الكفر بالإيمان خطاب للمؤمنين أعلمهم أن اليهود أهل غش وحسد، وأنهم يتمنون للمؤمنين المكاره فنهاهم الله تعالى أن يقبلوا من اليهود شيئاً ينصحونهم به في الظاهر، وأخبرهم أن من ارتد عن دينه فقد أخطأ قصد السبيل.
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} قوله عز وجل: {ود كثير من أهل الكتاب} نزلت هذه الآية في نفر من اليهود، وذلك أنهم قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم، فقال عمار بن ياسر. كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال: إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت قالت اليهود، أما هذا فقد، صبأ وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينا وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً. ثم إنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك، فقال: أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل الله تعالى: {ود} أي تمنى كثير من أهل الكتاب يعني اليهود {لو يردونكم} أي يا معشر المؤمنين {من إيمانكم كفاراً} أي ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر {حسداً} أي يحسدونكم حسداً وأصل الحسد تمني زوال النعمة عمن يستحقها، وربما يكون مع ذلك سعي في إزالتها، والحسد مذموم لما روي عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب» أخرجه أبو داود، فإذا أنعم الله على عبده نعمة فتمنى آخر زوالها عنه، فهذا هو الحسد وهو حرام فإن استعان بتلك النعمة على الكفر، والمعاصي فتمنى آخر زوالها عنه فليس بحسد، ولا يحرم ذلك لأنه لم يحسده على تلك النعمة، من حيث إنها نعمة بل من حيث إنه يتوصل بتلك النعمة إلى الشر والفساد وقوله: {من عنده أنفسهم} أي من تلقاء انفسهم لم يأمرهم الله بذلك {من بعد ما تبين لهم الحق} يعني في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، حق لا يشكون فيه فكفروا به حسداً وبغياً {فاعفوا واصفحوا} أي فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وحسد وكان هذا الأمر بالعفو، والصفح قبل يؤمر بالقتال {حتى يأتي الله بأمره} أي بعذابه وهو القتل والسبي لبني قريظة والإجلاء والنفي لبني النضير قال ابن عباس: هو أمر الله له بقتالهم في قوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية {إن الله على كل شيء قدير} فيه وعيد وتهديد لهم {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} لما أمر الله المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبتين، ونبه بذلك على سائر الواجبات ثم قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} أي من طاعة وعمل صالح، وقيل أراد بالخير المال يعني صدقة التطوع، لأن الزكاة تقدم ذكرها {تجدوه عند الله} يعني ثوابه وأجره حتى التمرة واللقمة مثل أحد {إن الله بما تعملون بصير} أي لا يخفى شيء من قليل الأعمال، وكثيرها ففيه ترغيب في الطاعات، وأعمال البر وزجر عن المعاصي.
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} قوله عز وجل: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} يعني يهودياً، وقيل هو جمع هائد {أو نصارى} وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ولا دين إلا دين النصرانية قيل: نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا مع اليهود في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذب بعضهم بعضاً في دعواه قال الله: {تلك أمانيهم} أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير حق {قل} يعني يا محمد {هاتوا برهانكم} أي حجتكم على دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً دون غيرهم {إن كنتم صادقين} يعني فيما تدعون. ثم قال تعالى رداً عليهم: {بلى} أي ليس الأمر كما تزعمون ولكن {من أسلم وجهه لله وهو محسن} فإنه الذي يدخل الجنة وينعم فيها ومعنى أسلم وجهه لله أخلص في دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله. وقيل خضع وتواضع لله، لأن أصل الإسلام الاستسلام وهو الخضوع، وإنما خص الوجة بالذكر لأنه أشرف الأعضاء، وإذا جاد الإنسان بوضع وجهه على الأرض في السجود فقد جاد بجميع أعضائه، قال عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخراً ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له المزن تحمل عذباً زلالا يعني بذلك استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته الأرض والمزن، وهو محسن أي في عمله لله {فله أجره عند ربه} أي ثواب عمله {ولا خوف عليهم} أي في الآخرة {ولا هم يحزنون} أي على ما فاتهم من الدنيا. قوله عز وجل: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود وتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود للنصارى: ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بعيسى والإنجيل؛ وقالت النصارى لليهود ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بموسى والتوراة فأنزل الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} {وهم يتلون الكتاب} يعني وكلا الفريقين يقرؤون الكتاب، وليس في كتابهم هذا الاختلاف فدلت تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم لما فيه على كفرهم وكونهم على الباطل. وقيل: إن الأنجيل الذي تدين بصحته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوة موسى وما فرض الله على بني إسرائيل من الفرائض، وإن التوراة التي تدين بصحتها اليهود تحقق نبوة عيسى وما جاء به من عند ربه من الأحكام ثم كلا الفريقين، قالوا: ما أخبر الله عنهم بقوله: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} مع علم كل واحد من الفريقين ببطلان ما قاله: {كذلك قال الذين لا يعلمون} يعني مشركي العرب قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنهم ليسوا على شيء {مثل قولهم} يعني مثل قول اليهود للنصارى والنصارى لليهود. وقيل: أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. قالوا في أنبيائهم: ليسوا على شيء {فالله يحكم} أي يقضي {بينهم يوم القيامة} يعني بين المحق والمبطل {فيما كانوا فيه يختلفون} يعني من أمر الدين.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} قوله عز وجل: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} نزلت في خراب بيت المقدس وذلك أن ططوس الرومي غزا بني إسرائيل فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم وحرق التوراة وخرب بيت المقدس فلم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في زمن عمر بن الخطاب فأنزل الله تعالى {ومن أظلم} أي ومن أكفر وأبغى ممن منع مساجد الله، يعني بيت المقدس ومحاريبه أن يذكر فيها اسمه أي يعبد ويصلي له فيها {وسعى في خرابها} وقيل: أن بختنصر المجوسي من أهل بابل هو الذي غزا بني إسرائيل وخرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى من أجل اليهود، قتلوا يحيى بن زكريا {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين} ذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم قال ابن عباس: لم يدخلها بعد عمارتها رومي أو نصارني إلاّ خائفاً إن علم به قتل وقيل أخيفوا بالجزية والقتل فالجزية على الذمي، والقتل على الحربي وقيل: خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية ورومية وعمورية {لهم في الدنيا خزي} يعني الصغار والذل والقتل والسبي {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} يعني النار. وقيل: إن الآية نزلت في مشركي مكة وأراد بالمساجد المسجد الحرام وذلك أنهم منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يصلوا فيه في ابتداء الإسلام، ومنعوهم من حجة والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من يعمره بذكر الله تعالى وصلواته فيه فقد سعوا في خرابه أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين يعني مشركي مكة يقول الله تعالى: أفتحها عليكم أيها المسلمون حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالموسم لما نزلت سورة براءة: ألا لا يحجن البيت بعد هذا العام مشرك فكان هذا خوفهم وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم. فإن قلت كيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو إما بيت المقدس أو المسجد الحرام؟. قلت يجوز أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً ومن أظلم ممن آذى الصالحين. فإن قلت أي القولين أرجح؟. قلت رجح الطبري القول الأول وقال إن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس بدليل أن مشركي مكة لم يسعوا في خراب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات من الصلاة فيه، وأيضاً فان الآية التي قبل هذه والتي بعدها في ذم أهل الكتاب، ولم يجر لمشركي مكة ذكر ولا للمسجد الحرام فتعين أن يكون المراد بهذه بيت المقدس، ورجح غيره القول الثاني بدليل أن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود فكيف يسعون في خرابة وهو موضع حجهم. وذكر ابن العربي في أحكام القرآن قولاً ثالثاً، وهو أنه كل مسجد قال وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال. قوله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وعن عامر بن ربيعة عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى على رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. وقال ابن عمر نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته (ق) عن ابن عمر قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ» وكان ابن عمر يفعله وفي رواية لمسلم «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت وفيه نزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} الاية: وقيل: نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة وذلك أن اليهود عيرت المؤمنين وقالوا: ليس لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة يستقبلون هكذا فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليصلوا حيث شاؤوا من النواحي ثم إنها نسخت بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ومعنى الآية إن لله المشرق والمغرب وما بينهما خلقاً وملكاً، وإنما خص المشرق والمغرب اكتفاء عن جميع الجهات لأن له كلها وما بينهما خلقه وعبيده، وإن على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه فلما أمرهم باستقباله فهو القبلة فإن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، وأمر بالتوجه إليها {فأينما تولوا فثم وجه الله} أي فهنالك قبلة الله التي وجهكم إليها، وقيل معناه فثم وجه الله تعالى بعلمه وقدرته. والوجه صفة ثابتة لله تعالى لا من حيث الصورة. وقيل: فثم رضا الله أي يريدون بالتوجه إليه رضاه {إن الله واسع} من السعة وهو الغني أي يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود والتدبير. وقيل واسع المغفرة {عليم} أي بأعمالكم ونياتكم حيثما تصلوا، وتدعوا لا يغيب عنه منها شيء. مسألة تتعلق بحكم الآية: وهي أن المسافر إذا كان في مفازة أو بلاد الشرك، واشتبهت عليه القبلة فإنه يجتهد في طلها بنوع من الدلائل ويصلي إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده ولا إعادة عليه وإن لم يصادف القبلة فإن جهة الاجتهاد قبلته، وكذا الغريق في البحر إذا بقي على اللوح فإنه يصلي على حسب حاله، وتصح صلاته وكذلك المشدود على جذع بحيث لا يمكنه الاستقبال.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} قوله عز وجل: {وقالوا اتخذ الله ولداً} نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: عزيزا ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا المسيح ابن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله {سبحانه} أي تنزيهاً لله فنزه الله نفسه عن اتخاذ الولد وعن قولهم: وافترائهم عليه (خ) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم إني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً» {بل له في السموات والأرض} يعني عبيداً وملكاً فكيف ينسب إليه الولد وهو داخل فيهما. وقيل: إن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد والله تعالى منزه عن الشبيه والنظير. وقيل: إن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه والانتفاع به عند عجز الوالد وكبره، والله تعالى منزه عن ذلك كله فإضافة الولد إليه محال {كل له قانتون} يعني أن أهل السموات والأرض مطيعون لله ومقرون له بالعبودية، وأصل القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع. وقيل: أصله: القيام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» فعلى هذا يكون معنى الآية كل له قائمون بالشهادة ومقرون له بالوحدانية. وقيل: قانتون أي مذللون مسخرون لما خلقوا له. واختلف العلماء في حكم الآية فقال بعضهم: هو خاص ثم سلكوا في تخصيصه طريقين. أحدهما: قالوا هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الكفار وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام لأن لفظة كل تقتضي الشمول والإحاطة ثم سلكوا في الكفار طريقين. أحدهما أن ظلالهم تسجد لله وتطيعه. والثاني أن هذه الطاعة تكون في يوم القيامة. ومن ذهب إلى تخصيص حكم الآية أجاب عن لفظة كل بأنها لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} ولم تؤت ملك سليمان فدل على أن لفظة كل لا تقتضي ذلك.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} قوله عز وجل: {بديع السموات والأرض} أي خالقها ومبدعها ومنشئها على غير مثال سبق. وقيل: البديع الذي يبدع الأشياء أي يحدثها مما لم يكن {وإذا قضى أمراً} أي قدره وأراد خلقه. وقيل: إذا أحكم أمراً وحتمه وأتقنه. وأصل القضاء الحكم والفراغ والقضاء في اللغة على وجوه كلها ترجع إلى انقطاع الشيء وتمامه والفراغ منه {فإنما يقول له كن فيكون} أي إذا أحكم أمراً وحتمه فإنما يقول له فيكون ذلك الأمر على ما أراد الله تعالى وجوده. فإن قلت المعدوم لا يخاطب فكيف قال فإنما يقول له كن فيكون. قلت: إن الله تعالى عالم بكل ما هو كائن قبل تكوينه وإذا كان كذلك كانت الأشياء التي لم تكن كأنها كائنة لعلمه بها فجاز ان يقول لها: كوني ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال العدم إلى حال الوجود وقيل اللام في قوله: {له} لام أجل فيكون المعنى إذا قضى أمراً، فإنما يقول: لأجل تكوينه وإرادته له كن فيكون فعلى هذا يذهب معنى الخطاب. قوله عز وجل: {وقال الذين لا يعلمون} قال ابن عباس هم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هم النصارى وقيل: هم مشركو العرب {لولا} أي هلا {يكلمنا الله} أي عياناً بأنك رسوله {أو تأتينا آية} أي دلالة وعلامة على صدقك {كذلك قال الذين من قبلهم} أي كفار الأمم الخالية {مثل قولهم} وذلك أن اليهود سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، وأن يسمعهم كلام الله. وسألوه من الآيات ما ليس لهم مسألته فأخبر الله عن الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: مثل ما قال من كان قبلهم {تشابهت قلوبهم} يعني أن المكذبين للرسل تشابهت أقوالهم وأفعالهم. وقيل تشابهت في الكفر والقسوة والتكذيب وطلب المحال {قد بينا الآيات} أي الدلالات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {لقوم يوقنون} يعني أن آيات القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من العجزات الباهرات كافية لمن كان طالباً لليقين، وإنما خص أهل الإيقان بالذكر لأنهم هم أهل التثبت في الأمور ومعرفة الأشياء على يقين. قوله عز وجل: {إنا أرسلناك بالحق} أي بالصدق وقال ابن عباس: بالقرآن وقيل: بالإسلام وقيل: معناه إنا لم نرسلك عبثاً، بل أرسلناك بالحق {بشيراً} أي مبشراً لأوليائي، وأهل طاعتي بالثواب العظيم {ونذيراً} أي منذراً ومخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم {ولا تسأل} قرئ بفتح التاء على النهي قال ابن عباس: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت هذه الآية، والمعنى إنا أرسلناك لتبليغ ما أرسلت به ولا تسأل عن أصحاب الجحيم. وقرئ ولا تسأل بضم التاء ورفع اللام على الخبر. وقيل: على النفي والمعنى إنا أرسلناك بالحق لتبليغ ما أرسلت به، فإنما عليك البلاغ ولست مسؤولاً عمن كفر {عن أصحاب الجحيم} أي عن أهل النار، سميت النار جحيماً لشدة تأججها. وقيل: الجحيم معظم النار.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} قوله عز وجل: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله هذه الآية والمعنى إنك وإن هادنتهم فلا يرجون بها وإنما يطلبون ذلك تعللاً ولا يرجون منك إلا باتباع ملتهم. وقال ابن عباس: هذا في أمر القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا النبي صلى الله عليه وسلم، حين كان يصلي إلى بيت المقدس، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود} يعني إلا باليهودية، {ولا النصارى} يعني إلا بالنصرانية وهذا شيء لا يتصور إذ لا يجتمع في رجل واحد شيئان في وقت واحد وهو قوله: {حتى تتبع ملتهم} يعني دينهم وطريقتهم {قل} أي ما محمد {إن هدى الله} يعني دين الله الذي هو الإسلام {هو الهدى} أي يصبح أن يسمى هدى {ولئن اتبعت} يا محمد {أهواءهم} يعني أهواء اليهود والنصارى، فيما يرضيهم عنك وقيل: أهواءهم أقوالهم التي هي أهواء وبدع {بعد الذي جاءك من العلم} أي البيان لأن دين الله هو الإسلام وأن القبلة هي قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة {ما لك من الله من ولي} يعني يلي أمرك ويقوم بك {ولا نصير} أي ينصرك ويمنعك من عقابه وقيل: في قوله ولئن اتبعت أهواءهم أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، والمعنى إياكم أخاطب ولكم أؤدب وأنهى فقد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق والصدق وقد عصيته فلا تتبعوا أنتم أهواء الكافرين. ولئن اتبعتم أهواءهم بعد الذي جاءكم من العلم والبينات ما لكم من الله من ولي ولا نصير. قوله عز وجل: {الذين آتيناهم الكتاب} قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا الرهب، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب مثل عبدالله بن سلام وأصحابه. وقيل: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وقيل: هم مؤمنون عامة {يتلونه حق تلاوته} أي يقرؤونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يحرّفونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويقفون عنده ويكلون علمه إلى الله تعالى. وقيل: معناه تدبروه حق تدبره وتفكروا في معانيه وحقائقه وأسراره {أولئك} يعني الذين يتلونه حق تلاوته {يؤمنون به} أي يصدقون به. فإن قلنا: إن الآية في أهل الكتاب فيكون المعنى إن المؤمن بالتوراة الذي يتلوها حق تلاوتها هو المؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن في التوراة نعته وصفته. وإن قلنا: إنها نزلت في المؤمنين عامة فظاهر {ومن يكفر به} أي يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم {فأولئك هم الخاسرون} أي خسروا أنفسهم حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} قوله عز وجل: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي أيادي لديكم وصنعي بكم واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم في نعم كثيرة أنعمت بها عليكم {وأني فضلتكم على العالمين} اي واذكروا تفضيلي إياكم على عالمي زمانكم، وفي هذه الآية عظة لليهود الذي كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} وفي هذه الآية ترهيب لهم والمعنى يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي المحرفين له، خافوا عذاب يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئاً {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} أي لا يقبل منها فدية ولا يشفع لها شافع وهذا من العام الذي يراد به الخاص كقوله تعالى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} ومعنى الآية ولا تنفعها شفاعة إذا وجب عليها العذاب ولم تستحق سواه. وقيل: إنه رد على اليهود في قولهم إن آباءنا يشفعون لنا {ولا هم ينصرون} أي ولا ناصر لهم ينصرهم من الله إذا انتقم منهم قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} إبراهيم اسم أعجمي ومعناه أب رحيم وهو إبراهيم بن تارخ وهو آزر بن ناخور بن شاروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان مولد إبراهيم بالسوس من أرض الأهواز وقيل: ببابل وقيل بكوثى وهي قرية من سواد الكوفة. وقيل: بحران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل وهي أرض نمروذ الجبار. وإبراهيم عليه السلام تعترف بفضله جميع الطوائف قديماً، وحديثاً فأما اليهود والنصارى فإنهم مقرون بفضله ويتشرفون بالنسبة إليه وأنهم من أولاده وأما العرب في الجاهلية فإنهم أيضاً يعترفون بفضله ويتشرفون على غيرهم به لأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه وخدام بيته، ولما جاء الإسلام زاده الله شرفاً وفضلاً فحكى الله تعالى عن إبراهيم أموراً توجب على المشركين والنصارى واليهود قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه لأن ما أوجبه الله على إبراهيم عليه السلام هو من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك حجة على اليهود والنصارى ومشركي العرب في وجوب الانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وتصديقه. وأصل الابتلاء الامتحان والاختبار ليعرف حال الإنسان وسمي التكليف بلا ء لأنه يشق على الأبدان. وقيل: ليختبر به حال الإنسان فإذا قيل: ابتلى فلان بكذا يتضمن أمرين: أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني ظهرو جودته ورداءته وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم، والوقوف علىما يجهل منها لأنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد. ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة وعلى هذا ينزل قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات}. واختلفوا في تلك الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس: هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام لم يبتل أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب الله له البراءة فقال: {وإبراهيم الذي وفى} ومعنى هذا الكلام إنه لم يبتل أحد قبل إبراهيم فأما بعد فقد أتى الأنبياء بجميع ما أمروا به من الدين خصوصاً، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أتى بجميع ما أمر به، وهي عشرة مذكورة في سورة براءة في وقوله: {التائبون العابدون} الآية وعشرة في سورة الأحزاب في قوله: {إن المسلمين والمسلمات} الآية وعشرة في سورة المؤمنون في قوله: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} والآيات وهي مذكورة أيضاً في سورة سأل سائل. وعن أبن عباس أيضاً قال: ابتلاه الله بعشرة أشياء هن الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء (ق). عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الفطرة خمس، في رواية خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط» (م) عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء» يعني الاستنجاء قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء قال العلماء: الفطرة السنة. وقيل: الملة وقيل: الطريقة وهذه الأشياء المذكورة في الحديث وأنها من الفطرة قيل كانت على إبراهيم عليه السلام فرضاً وهي لنا سنة واتفقت العلماء على أنها من الملة وأما معانيها فقد قيل: اما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم كانوا يقصون لحاهم، أو يوفرون شواربهم أو يوفرونهما معاًن وذلك عكس الجمال والنظافة وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم، والأنف من الطعام والقلح والوسخ، وأما قص الأظافر فللجمال، والزينة فإنها إذا طالت قبح منظرها، واحتوى الوسخ فيها وأما غسل البراجم وهي العقد التي في الظهور الأصابع فإنه يجتمع فيها الوسخ ويشين المنظر، وأما حلق العانة ونتف الإبط فللتنظف عما يجتمع من الوسخ في الشعر وأما الاستنجاء، فلتنظيف ذلك المحل عن الأذى وأما الختان فلتنظيف القلفة، عما يجتمع فيها من الول. واختلف العلماء في وجوبه فذهب الشافعي إلى أن الختان واجب لأنه تنكشف له العورة، ولا يباح ذلك إلا في الواجب وذهب غيره إلى أنه سنّة. وأول من ختن إبراهيم عليه السلام ولم يختتن أحد قبله (ق) عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختتن إبراهيم بالقدوم» يروى القدوم بالتخفيف والتشديد، فمن خفف ذهب إلى أنه اسم للآلة التي يقطع بها ومن شدد قال: إنه اسم موضع. عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: «كان إبراهيم خليل الرحمن أول الناس ضيف الضيف وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب: قال: رب ما هذا قال الرب تبارك وتعالى وقاراً يا إبراهيم قال رب زدني وقاراً» أخرجه مالك في الموطأ وقيل: في الكلمات إنها مناسك الحج. وقيل: ابتلاه الله بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فأحسن النظر فيهن وبالنار والهجرة وذبح ولده والختان، فصبر عليها وقيل: إن الله اختبر إبراهيم بكلمات أوحاها إليه وأمره أن يعمل بهن فأتمهن أي أداهن حق التأدية، وقام بموجبهن حق القيام وعمل بهن من غير تفريط وتوان ولم ينتقص منهن شيئاً. واختلفوا هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل: كان قبل النبوة بدليل قوله في سياق الآية: {إني جاعلك للناس إماماً} والسبب يتقدم على المسبب. وقيل: بل كان هذا الابتلاء بعد النبوة لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي وذلك بعد النبوة. والصواب أنه إن فسر الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس كان ذلك قبل النبوة، وإن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة. وقوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماماً} أي يقتدى بك في الخير ويأتمون بسنّتك وهديك، والإمام هو الذي يؤتم به {قال ومن ذريتي} أي قال إبراهيم: واجعل من ذريتي وأولادي أئمة يقتدى بهم {قال} الله {لا ينال} أي لا يصيب {عهدي} أي نبوتي. وقيل الإمامة {الظالمين} يعني من ذريتك والمعنى لا ينال ما عاهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ذريتك وولدك.
|